2012/03/13

جرائم ترفض أن تموت (الحلقة 1-2 -3 -4 )


جرائم ترفض أن تموت (الحلقة الأولى)


 الدكتور طالب الرمَّاحي

(هذه الدراسة تتناول في حلقات أكبر الجرائم المرتكبة بحق الشعب العراقي وهي جريمة المقابر الجماعية في العراق ، وكيف تعاملت الحكومات العراقية معها بعد نيسان 2003 ، والجهود التي بذلت وما زالت من أجل انقاذها من التهميش والنسيان ) .

يقول بعض الخبراء أن قيام دولة إسرائيل كان بسبب محرقة النازية لليهود في الحرب العالمية الثانية ، فلقد بدأوا تنفيذ خطتهم والتمهيد لذلك منذ اليوم الأول الذي دخلت فيه القوات الروسية معسكر أوشفيتز وتحرير ما تبقى به من محتجزين يهود .
لقد برع اليهود في تقديم أنفسهم للشعوب الأوربية وللبريطانين بالذات على أنهم الأمة الأكثر تعرضا للظلم والتعسف وبهذا فهم يستحقون كل أنواع التعاطف والعون ، ونعتقد أن ذلك دفع ( بلفور ) إلى إصدار وعده التاريخي بمنح فلسطين كوطن قومي لهم .
لقد تعامل اليهود مع المحرقة النازية ( الهلوكوز ) تعاملاً دقيقا وستراتيجياً ذكيا ، واستطاعوا من خلالها أن يقلبوا المعادلة التي كانت تحكم العلاقات اليهودية الأوربية ، واصبحت الأمة المنبوذة والمتهمة بالجشع والتآمر وعبادة الذات والمصالح الخاصة إلى أمة مستضعفة تستحق التعاطف وسرعة الإنقاذ ورد الاعتبار والحقوق التي استبيحت من قبل النازيين ، وفعلا استطاعت أن تحقق أحلامها كاملة إلى الدرجة التي استطاعت بعد ذلك  أن تؤثر بشكل مباشر في اتخاذ القرارات التي تتبناها كبار الدول في عالم اليوم .

يقول اليهود إن الظلم الذي لحق بهم غير وجه العالم فأعاد النظر في التعامل مع حقوق الإنسان ، وإصدار التشريعات الكثيرة التي تكفل ضمان تلك الحقوق ، ولقد حققوا ذلك لأنهم نجحوا في إيصال مظلوميتهم لشعوب العالم وللمنظمات الدولية المعنية ، وهذا النجاح تحقق بفعل العمل الدؤوب للمنظمات الصهيونية وصرف الأموال الطائلة على الكثير من الفعاليات الاجتماعية كالندوات ومعارض الصور وافتعال المناسبات وبشكل مهني وعلمي دقيق ، ولم يكتفوا بترسيخ مظلوميتهم في وجدان العالم الغربي بل استطاعوا أن يجندوا الكثير من الحكومات والمنظمات الإنسانية و المؤسسات القضائية إلى الدفاع عن مظلوميتهم من خلال إصدار الكثير من التشريعات القضائية التي تحرم وتجرم كل من يشكك أو يستهين أو يقلل من ضخامة ما ادعوه من حجم للجريمة وقد ألزموا غالبية الدول الغربية وأمريكا على العمل بتلك التشريعات القضائية ضد من يشكك بمظلوميتهم .

لم يكن اليهود الوحيدين الذين دافعوا وكما ينبغي للشعوب أن تدافع عن حريتها وتثأر لكارمتها وتحفظ للأجيال مشاعر التمسك بالكرامة والعزة ، فالشعب البوسني هو الآخر لم تهدأ له جانحة بعد أن توفرت له فرصة حرية التعبير عن الذات وطرح مظلوميته للعالم وللشعوب المحيطة به ، فبعد حرب الإبادة العرقية التي شنها الصرب بحق المسلمين في البوسنة والتي بدأت في 17 أبريل 1992 وانهتها اتفاقية دايتون في 14 ديسمبر1995 ، اكتشف البوسنيون  الكثير من المجازر التي ارتكبها الأصراب بحق المدنيين ، ومن تلك الجرائم  المقابر الجماعية التي اكتشفت في أماكن كثيرة بسبب التطهير العرقي الذي كان يمارس بحقهم ، فبلغ عدد المقابر المكتشفة حتى نهاية 2004 أكثر من 363 مقبرة تحتوي على 18 ألف ضحية .وبادرت الحكومة البوسنية إلى طرح هذه المظلومية على الاتحاد الأوربي وتم رصد مبالغ كبيرة للتعامل العلمي والإنساني مع الضحايا وذويهم ، ثم بادرت إلى تخصيص وزارة لشهداء المقابر الجماعية ، وتم الإسراع في تشكيل لجنة فاعلة للبحث عن المقابر الجماعية في كل انحاء البلاد برئاسة عمر ماسوفيتش .
هناك أكثر من سبب يدفع الشعوب والأمم للاهتمام بضحاياها وشهدائها ، اسباب دينية وإنسانية وأخرى مادية ، فالأديان السماوية تتفق جميعها على احترام الإنسان وتكريمه تنفيذا للرغبة الإلهية التي كرمته ( وكرمنا بني آدم ) وبذلك يكون هذا التكريم هو جزء مهم في العقيدة والأمم التي تعمل بهذا المبدأ هي أمة متدينة وهي أقرب إلى الله من غيرها ، فتكريم المرء حي وميت هو مصداق لتمسك الأمة بمبادئها الدينية ناهيك من أن العقائد السماوية أكدت على أن الإنسان هو القيمة العليا في الكون ، فالاستخفاف به هو استخفاف بالأهداف الإلهية التي كانت وراء وجوده ، والأمة التي لاتعير اهتماما بدماء شهدائها أنما تستخف بكيانها ووجودها ، وهي أمة تافهة لايعول عليها ، وهذا يدعونا إلى القول إن الأمم التي تؤمن بالرسالات السماوية ينبغي لها أن تكون أشد من غيرها في احترام ( آدميتها ) وأكثر من غيرها في تجسيد المباديء الإنسانية في تعاملها مع بعضها أو مع غيرها ، كما أن هذا المبدأ الإنساني يجعلها أيضا أكثر اهتماما بالمظلومين منها وبمن يضحي من أجلها كالشهداء .

 لم نر في منطقة الشرق الأوسط ومنذ أفول شخصية الرسول الكريم أي مؤشرات على أهتمام الأمة الإسلامية بحقوق الإنسان التي أكد عليها القرآن وأوصى بها النبي ، بسبب طبيعة الحكومات التي تسلمت زمام الأمور منذ قيام الدولة الأموية وحتى عصرنا هذا ، فأغلب تلك الحكومات كانت مشغولة بتقوية وجودها السياسي وتكريس حاكمية ماكانت تطلق عليه بالخليفة ، وعليه فإن ديمومتها يعتمد على تصفية الخصوم السياسيين . وبقيت هذه العقلية تحكم بلادنا وإلى أن تسلم حزب البعث السلطة في العراق ، فارتكب الكثير من الكوارث الإنسانية ومنها جرائم المقابر الجماعية .
ولايختلف العالم الغربي عما هو عليه المجتمع العربي والإسلامي من ترد في احترام حقوق الانسان قبل القرن السابع عشر ، ففي هذا القرن تطورت الأفكار الديمقراطية  في أوربا والولايات المتحدة نتيجة لتطور الفكر والفلسفة وبروز مفكرين ومصلحين اجتماعيين كاسبينوزا وهيوم وجان جاك روسو وولادة حركات إصلاحية ، حيث كان الإنسان قبل ذلك مهانا ومصائر الأمم تتحكم بها الطبقات الارستقراطية ورجال الكنيسة ، وكان للثورات الاقتصادية والثقافية الحديثة كالثورة الفرنسية وغيرها ، أثر مباشر في تغير تعامل الإنسان الأوربي والمساعدة على فرض أنظمة ديمقراطية وقوانين سياسية واجتماعية تنظم العلاقة بين الحكومات والشعوب ، ثم فسحت المجال لأول مرة في تاريخ البشرية لمنظمات المجتمع المدني المستقلة في انتقاد كل ما من شأنه أن يصادر حرية الفرد أو الجماعة. وأصبحت هذه المؤسسات تشير بحرية إلى الجرائم التي ترتكب بحق الأفراد والجماعات ، وأصبحت تشكل حرجاً لغالبية الحكومات في العالم ، حيث أصبح في وسعها أن تطالب بمعاقبة الفاعلين ، مما دفع الكثير منها وخاصة في دول العالم الثالث أن تخطو باتجاه احترام شعوبها ، وتوفير هامش من الحرية وإبداء الرأي ، كما أصبح في وسع الكثير من الشعوب إلى إلى لفت الأنظار للجرائم التي تقترف بحقها سواء من الحكومات أو من قبل شعوب أخرى ، وقد رأينا كيف انتصر العالم والشعب البوسني لقضية المقابر الجماعية التي ارتكبتها القوات الصربية ، ورأينا أمثلة أخرى في رواندا ولبنان وفلسطين .

ونحن نعتقد أن الدم البريء ، في وسعه أن يحقن الكثير من دماء الأحياء ، إذا كانت الدماء المسفوكة ظلماً تعود لأمة تمتلك كرامة إلهية ولديها من المشاعر الدينية ما يمكنها من أن تفعل المستحيل من أجل الثأر لتلك الدماء ، وتسخر كل إمكاناتها لكي لاتسباح لها دماء أخرى ، وهذا فعلاً ما أقدمت عليه الشعوب على مر التاريخ . أما الشعوب التي تلعق جراحها وتحاول أن تتناسى الماضي بما يمتلكه من إهانة لها ولوجودها ولكراماتها ودمائها المستباحة ، هي شعوب لاتستحق الحياة ، بكل المعايير الدينية والوضعية ، وعليها أن تستعد للذل والهوان على يد عباد الدنيا والانتهازيين من داخلها ، أو من قبل الشعوب الأخرى المحيطة بها ، وليس ثمة ما يعجز الشعوب الأخرى من أن تستغل هذه الصفة التخاذلية وأن تجند ما يحلوا لها من داخل الأمة لتصل إلى أهدافها ، لأن من سنن الحياة هو استحواذ القوي على الضعيف .

جرائم ترفض أن تموت – الحلقة الثانية


 الدكتور طالب الرمَّاحي

عَرف العالم  قبل بداية الألفية الثالثة حالات نادرة لجرائم المقابر الجماعية ، وهي ضرب من التطهير العرقي والإبادة الجماعية ( Genocide ) ، إلا أن أحدثها تلك التي ارتكبها الع نصريون الأصراب بحق المسلمين في البوسنة والهرسك ، قبل اتفاقية  ( دايتون للسلام في كانون الأول 1995) والتي انهت ثلاث سنوات من الحرب العنصرية ، امتلأت خلالها البوسنة والهرسك بالمقابر الجماعية التي دفن فيها آلاف من المدنيين كالحيوانات. وتعد مقابر سريبرينيتشا مثالاً رهيباً على ذلك . فقد ذكرت العائلات المشردة في توزلا ، والتي قابلتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر ، أن القوات الصربية قبضت على أكثر من 3000 شخص بعد سقوط المدينة مباشرة في منتصف تموز 1995. وقد تبين فيما بعد  أنهم قتلوا ودفنوا في مقابر جماعية ، وتفيد الإحصاءات البوسنية أن مجمل الشهداء لايتعدى 30 ألفا من بينهم ضحايا المقابر الجماعية ، وفي تموز 2003 تم اكتشاف أكبر مقبرة جماعية في منطقة ( كارني فره ) ضمت 700 ضحية وهي أكبر مقبر جماعية تم العثور عليها خلال البحث عن الضحايا . وقد تمكن الشعب البوسني بعد انتهاء الحرب إلى التعامل بجدية مع ملف الشهداء وأسس وزارة لذلك كان لها دور فاعل في التحرك على الإتحاد الأوربي من أجل جمع المساعدات اللازمة لتغطية نفقات المشاريع الكبيرة التي غطت احتياجات المقابر الجماعية وتعويض ذويهم ، وقد شرعت الحكومة البوسنية قبل ذلك إلى تأسيس لجنة للبحث عن المقابر الجماعية عمدت إلى مسح شامل للأماكن التي يشتبه وجود مقابر فيها ، كما أن الوزارة عملت إلى إنشاء قاعدة  بيانات دقيقة للضحايا وذويهم ، كانت قاعدة للتعامل مع الملف بكل أبعاده المادية والإنسانية .

وبعد سقوط النظام البعثي في العراق في نيسان 2003 ، تغيرت نظرة العالم حول مفهوم جريمة المقابر الجماعية ، فقد نقلت وسائل الإعلام المختلفة صور العشرات من المقابر الجماعية التي  تم اكتشافها بطريقة البحث العشوائي من قبل ذوي الضحايا ، وبمشاركة بعض الشركات الأمريكية في إقليم كردستان ، لقد كانت الصور والمناظر التي تناولتها المؤسسات الإعلامية المحلية والعالمية قد أثارت المشاعر وسلطت الضوء على أكبر جريمة تقترف بحق الشعوب في العصر الحديث ، وبسسب التقديرات الكبيرة لعدد الضحايا فقد ذكرت (USA AID) في أحد تقاريرها : إن المقابر الجماعية في العراق جرائم فضيعة ارتكبت بحق الإنسانية، لم يتجاوزها في الوحشية سوى مذابح الإبادة الجماعية في راوندا، التي ارتكبت علم ١٩٩٤ و (حقول القتل) في كمبوديا التي جرت في أعوام السبعينات ، ومحارق الإبادة الجماعية ، التي قام بها النازيون في الحرب العالمية الثانية . لقد وقف العالم أجمع واجماً , لبشاعة ما ارتكبه حزب البعث من جرائم وبأساليب وحشية ، فلقد اكتُشفت مقابر متخصصة للنساء والأطفال كما هو في مدينة الحضر في الموصل ، وأخرى وجد فيها الضحايا مكبلين ويجلسون القرفصاء وهم موتى ، وهذا يعني أنهم دفنو أحياء ، ووجدت أطفال دفنت مع أمهاتها وفي أيديها لعبها .
كانت تلك الجرائم المكتشفة كارثة قد حلت بالشعب العراقي من قبل نظام تحرر من أي قيد إنساني أو آدمي ، إذن نحن أمام جرائم مميزة ، أهين من خلالها  شعب آمن لم يرتكب ذنب يستحق معه كل هذه البشاعة والوحشية ، وقد تأكد للجميع أن الأهداف الأساسية لتلك الإبادة الجماعية ( عنصرية وطائفية ) فدوافع نظام حزب البعث في تصفية الكورد في إقليم كردستان هو لإضعاف القومية الكوردية وإخضاعها تماما لإرادة القومية العربية الحاكمة والمتمثلة في حزب البعث العربي الإشتراكي ، ودوافع تصفية الشيعة في الوسط والجنوب هو لإضعاف الوجود الشيعي وإخضاعها تماما لإرادة الطائفة السنية التي يمثلها حزب البعث ، ومما لايخفى أن تلك الممارسات بحق الكورد والشيعة قد حظي بمباركة الحكومات العربية السنية في المنطقة ، وقد ظهرت تلك المباركة واضحة من خلال دعم تلك الحكومات للنظام البعثي طيلة سنوات الحرب مع إيران عسكريا وماديا ولوجستياً .
لقد استطاع الكورد في إقليم كردستان التحرر من قيود وبطش النظام البعثي بعد انتفاضة آذار سنة 1991 ، وتمكنوا من نيل عطف شعب وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية ،  ففي 16 نيسان اعلن الرئيس بوش عن المنطقة الامنة والتي تقع شمال خط عرض 36 لحماية الاكراد العائدين الى ديارهم من هجمات الطائرات العراقية (No fly zone) وحماية دولية من أي اعتداء أرضي قد يقوم به النظام السابق في مناطق الشمال الكردي ، بيد أن هذا الطيران قد أعطي الحرية في قمع الشعب العراقي في المناطق الأخرى وسمح له في أن يستخدم آلته العسكرية في القضاء على الشيعة في الوسط والجنوب ، وكانت ذروة ما ارتكبته تلك القوات البعثية من جرائم بشعة هو قمعها للإنتفاضة الشيعية  ،  يذكر تقرير أمريكي  : ( دمرت في الانتفاضة الكثير من المدن العراقية وسويت بالأرض ، وقتلت الحكومة العراقية ما يزيد عن 300 الف شخص في الجنوب العراقي وحده خلال الـ14 يوما التي هي عمر الانتفاضة وتم التكتم على ذلك من قبل نظام البعث والأنظمة العربية ، وكان من نتائجها دفن مئات الآلاف من المنتفضين أو ممن اعتقلهم الجيش وقوى الأمن والمخابرات البعثية في مقابر جماعية ، تم العثور عليها بعد سقوط النظام ومما لم يعثر عليها بعد لضعف الأداء الحكومي ) ، لقد بقي النظام يمارس عمليات الاعتقال والقتل والدفن في المقابر الجماعية في المحافظات الشيعية حتى سقوطه في التاسع من نيسان 2003 .
كانت أخلاقية البعث في العراق التي تنتهج الإسلوب الدموي في التعامل مع الشعب العراقي غير خافية على العالم ، بيد أن مصالح تلك الحكومات ( مادية ، عنصرية أو طائفية ) دعتها للسكوت ، لكن انتشار بعض الجرائم  عبر وسائل الإعلام الدولية ، مثل استخدام الغازات السامة في كارثة ( حلبجة ) وجريمة الأنفال ، أجبرت شعوب العالم إلى التعاطف مع الشعب العراقي في الخلاص من النظام البعثي ، وبعد وقوع العالم على بشاعة جرائم المقابر الجماعية تعمقت الرغبة في الخلاص من هكذا نظام يستخف بحقوق الإنسان بشكل لم تألفه البشرية إلا نادراً ، وكانت قضية اكتشاف المقابر الجماعية في العراق بالصورة التي عرضتها شبكات التلفزة الأمريكية قد تفاعلت بين أوساط الرأي العام الأمريكي مما أعطى تبريراً قوياً للحرب على العراق ولقرار الرئيس بوش في إسقاط نظام صدام وتحرير الشعب العراقي منه.

وفي جلسة عقدها الكونغرس الأمريكي في مايس 2003 للاستماع إلى شهادات المسؤولين في البنتاغون حول نتائج الحرب على العراق والوضع الأمني الداخلي ، أشار بول وولفتز وكيل وزير الدفاع في رده على أسئلة أعضاء بارزين في الكونغرس حول طبيعة نظام صدام (بأن اكتشاف المقابر الجماعية بهذا الحجم الكبير يعطينا دلالة على أننا نواجه مخلفات لنظام كان يعتمد على لصوص وقطاع طرق ومجرمي حرب).
ويقول السفير ريتشارد ولياسن الممثل الأمريكي المناوب لدى الأمم المتحدة للشؤون السياسية : (إن عملية حرية العراق كانت ضرورة أخلاقية لإنقاذ شعب كان يواجه الموت، ولا سبيل لتجنبها استناداً إلى تلك الضرورة التي كانت تتطلب إنهاء حكم صدام حسين القائم على الاستبداد الوحشي الذي شكل التعذيب والقتل فيه أداة سيطرة يومية معتادة، وقد تم توثيق جيد لعمليات الإبادة الجماعية التي قام بها ذلك النظام في بلد أصبح فيه عشرات الآلاف من المفقودين وهذا ما كشفته المقابر الجماعية كدليل إدانة لمحاسبة المسؤولين عن هذا النظام ) . وفي بيان – الحقائق – الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية عشية صدور قرار مجلس الأمن رقم 1483 في الثاني والعشرين من (مايو ـ أيار) 2003  قالت فيه : (إن القرار يمنح الصلاحية الكاملة للسلطة في العراق بأن تقوم بملاحقة كل المسؤولين في نظام صدام الذين ارتكبوا جرائم إبادة وفظائع بحق الشعب العراقي ، وتحرمهم من تلقي أي ملاذ آمن في بلدان أخرى ـ في إشارة منها إلى لجوء مسؤولين في نظام صدام المخلوع ستتم المطالبة بتسليمهم للقضاء من الدول التي لجأوا إليها). وأضاف بيان الحقائق : إن القرار 1483 يدعم الجهود المستمرة لتبيان مكان المفقودين والأسرى الكويتيين وغيرهم من رعايا دول أخرى اختفوا منذ غزو العراق للكويت عام 1991. وأن القرار يلزم السلطة في العراق واللجنة الدولية للصليب الأحمر وغيرها من منظمات وأفراد بمواصلة جهودهم لتبيان مصير مواطنين عراقيين ومن دول عربية أخرى مختفين منذ ذلك التاريخ .
فجرائم المقابر الجماعية كانت من المقدمات التي دعت العالم لتغيير نظام حزب البعث ، وتشكيل حكومة وفق المعايير الديمقراطية وإرادة الشعب ، ولذا فإن من أهم الواجبات الإخلاقية والإنسانية والوطنية لأي حكومة تتولى مسؤلية إدارة الحكم هو أن تتعامل مع جرائم المقابر الجماعية بالشكل الذي يضمن حقوق الضحايا وذويهم ويعيد للشعب العراقي بكل طوائفه اعتباره الذي سلب عند ارتكاب تلك الجرائم .


جرائم ترفض أن تموت – الحلقة الثالثة


ذكرنا في الحلقتين الماضيتين أن جرائم النظام السابق المتنوعة ومصادرته للحريات في العراق كشفت عن وجه إجرامي قبيح لحزب البعث الحاكم ، فأثر ذلك بشكل كبير على مصداقية النظام البعثي وأهليته في استمرار حكم العراق ، وراحت الكثير من حكومات العالم تشعر بالحرج من إقامة علاقات طبيعية معه  ، وعندما حصلت أحداث 11 سبتمر وتحركت الإدارة الأمريكية باتجاه إسقاط النظام ، لم تجد تلك الرغبة الأمريكية معارضة دولية أو إقليمية تكفي لتغير قناعة الأمريكيين في تنفيذ مشروع التغير . لذا فإن دماء شهداء المقابر الجماعية تكون قد ساهمت إلى حد كبير في عملية التغيير ، وهذا يعني أن الحكومات التي توالت على العراق بعد ذلك تكون مدانة لتلك الدماء ، وأن استحقاقات وطنية وشرعية وإنسانية تقع على مسؤولي تلك الحكومات في أن تتعامل مع ملف تلك الدماء بوفاء ، وليس من شك في أن الاهتمام بهذا الملف الإنساني قرينة تثبت أو تنفي إخلاص المسؤول أو عدمه لأمته وشعبه ولعقيدته ، وكان ينبغي على الحكومات إذن أن تبادر منذ الأيام الأولى بالقيام بخطوات جدية وفاءا منها للشهداء ولذويهم من أرامل وأيتام وأباء وامهات ، وهذا ما تفعله بل وفعلته كل شعوب العالم مع شهدائها التي راحت ضحية لأنظمة ديكتاتورية شمولية مشابهة لما حصل في العراق . ناهيك من أن أغلب شعوب العالم التي تعرضت لإبادة جماعية كالشعب اليهودي ورواندا وكبمبوديا والبوسنا والهرسك وغيرها قد عملت ما بوسعها لتثبيت تلك الجرائم في الوجدان الشعبي والعالمي لتضمن حقوق الأمة وضحاياها ، وقد استطاعت بعض تلك الشعوب مثل اليهود من خلال أداءها الجيد كما ذكرنا ذلك من قبل في الحصول على الكثير من المكاسب الستراتيجية وتحقيق أهداف كبيرة بفضل دماء ضحاياها .
وقبل أن أتناول ما فعلته أو لم تفعله الحكومات الإتحادية العراقية ، ينبغي أن أسأل سؤالاً كبيرا مهماً حول مسؤولية الأمة ومؤسساتها الحكومية والمدنية اتجاه هذا الملف الإنساني الخطير ، بعد أن هيأ الله سبحانه وتعالى من ينقذ هذا الشعب من نظام حزب البعث الظالم ويفك كامل قيوده .

( هل بادرت الحكومات الإتحادية المتعاقبة منذ مجلس الحكم ،  وتشكيل أول حكومة انتقالية في 31 آب 2003 ، وحتى انتهاء ولاية حكومة نوري المالكي في آذار 2010 ، إلى التعامل مع ملف شهداء المقابر الجماعية كما ينبغي ، أو كحد أدنى مما ينبغي أن تفعله من استحقاقات وطنية وشرعية وإنسانية ؟ ولماذا لم يبادر الشعب العراقي وخاصة في الوسط والجنوب باعتبار أن غالبية الضحايا من تلك المناطق ، إلى مطالبة الحكومة باسترداد كرامتها وحقوقها التي سلبت من قبل النظام السابق من خلال تلك الجرائم اللاإنسانية ؟ وهل قامت منظمات حقوق الإنسان في العراق بواجبها اتجاه ملف شهداء المقابر الجماعية ؟ ) .
من خلال تعايشي المستمر مع الملف لم أر أي خطوة ذات أثر تم العمل بها من أجل تنفيذ الأمور المهمة ، والتي ينبغي أن تبادر بها الحكومة باعتبارها معنية بتنفيذ الدستور وتحقيق مصالح وإرادة الشعب والحريصة على تنفيذ مشاريعه المختلفة ومنها الإنسانية ، وأنا هنا عندما أتحدث عن المهام التي ينبغي القيام بها إنما أعني مهام ستراتيجية كبيرة في الداخل والخارج وليس تلك التي تتعلق بتعويض بعض عوائل الشهداء مبلغا من المال أو قطع أراضي أو تخصيص رواتب تقاعدية لبضعة آلاف من ذوي الشهداء ، فهذه الأمور وما يشبهها مما تقوم بها مؤسسة الشهداء هي من بديهيات ما يجب أن تفعله الحكومة ، لكن الذي أعنيه هو القيام بمهام أخرى ذات أبعاد كبيرة ، يمكن حصرها بما يلي :

أولاً : جهة تتبنى مسؤولية ملف المقابر الجماعية :
تشكيل مرجع ذات صلاحيات وقدرات مالية كافية للنهوض بمسؤولياتها في تنفيذ المشاريع المختلفة التي تغطي جوانب الملف المختلفة والتي تتعلق بالضحايا كالاهتمام بمقابرهم والقيام بإجراءات تحفظ لهم تضحياتهم وتكرمهم وتقوم بتعويض وتكريم ذويهم من خلال إصدار القوانين الخاصة بذلك ، تبدأ تلك الإجراءات بإحصائية دقيقة للضحايا وذويهم وبما يتعلق بقضيتهم وانتهاءاً بإصدار القوانين المختلفة والتي تتضمن كل ما يتعلق بحقوقهم المادية والمعنوية ، الوطنية والشرعية والإنسانية ، وقد اقترحنا أكثر من مرة على الحكومة الإتحادية ( في لقاءات مع مدير مكتب رئيس الوزراء ) ، أن تشكل لذلك وزارة أو هيئة وطنية عليا ترتبط ماليا وإداريا بمجلس الوزراء . وثمة إشكال قد يطرح نفسه ، وهو أن هناك أطراف ذات بعد مؤثر في المعادلة السياسية تنظر إلى الإهتمام بملف المقابر الجماعية على أنه إدانة لها بسبب علاقتها الطائفية بالنظام السابق ، وبالتالي فإنها سوف لن تسمح للحكومة في أن تشكل وزارة خاصة بالمقابر الجماعية ، وربما تسعى إلى عرقلة المشروع داخل البرلمان أثناء التصويت . وتشكيل هيئة عليا لنفس الغرض سوف يواجه التحدي نفسه لأن ذلك يتطلب موافقة البرلمان أيضاً . ونحن نرى أن هذا الإشكال لايسقط حق الضحايا في العمل الجاد من أجل تحقيق هذا الهدف الإنساني المقدس ، كما أنه لا يسقط المسؤولية كاملة عن رقاب المعنيين بها ،  فالشعب العراقي ما زال يعاني من وجود ممثلي لحزب البعث بمسميات أخرى تشترك بقوة في الحكم وتمارس ضغوط كبيرة على السلطتين التنفيذية والتشريعية ( ولحد انتخابات آذار 2010 ) من أجل أن تمنعها من أن تعمل بواجبها في معالجة هذا الملف ، والذي يؤسف له أن تلك الضغوط كانت إحدى الأسباب التي جمدت العمل بهذا الملف وأضرت به إلى حد كبير ، وقد شجع تلك الأطراف على التشكيك بجرائم المقابر الجماعية والعمل على طمسها ، عدم تحمس الحكومة في تبني الملف ، وراحت تغمض عينيها عنه ، ونعتقد أنه لو ثمة نوايا حسنة وإصرار على العمل بهذا الإتجاه فسوف لن يكون لأي طرف معترض ذلك الأثر الذي يمنع وبالشكل الذي نراه من قيام الحكومة بواجبها. ولذا نرى أن من حق الشعب العراقي بل ينبغي عليه أن يطالب الحكومة بالتعامل مع قضيته هذه وفق متطلبات مصالحه وليس مصالح أعدائه . وهذا يعني أن أي قصور من قبل الأمة في معالجة مشاكل الملف ( وكما هو حاصل لحد الآن ) يعني أن ثمة خلل ما في فهم الأمة لقضاياها الكبيرة والخطيرة ، وأن ثمة اسباب يجب العمل الحثيث لمناقشتها وإزالتها ،  ويتطلب من النخب المخلصة أن تتحرك للتوعية وللإصلاح ، كما أن أي قصور وتلكؤ من قبل ممثلي الأمة سواء في البرلمان أو الحكومة  ( وكما هو حاصل أيضاً ) في العمل بشكل صحيح في التعامل مع الملف ، يعني خيانة للأمة وللعقيدة ، فعلى الأمة من خلال نُخبها المخلصة والكفوءة أن تبادر إلى حث الحكومة على العمل بواجباتها وفق ما تمليه مصالح الأمة وكما ينبغي ، بعيدا عن المصالح الحزبية وعن المجاملات والمداهنات أو المصانعة التي عاشتها العملية السياسية خلال السنوات السبع الماضية .

ثانياً : تشكيل لجنة للبحث عن المقابر الجماعية :
لاأستطيع أن أضع تفسيرا أو اسبابا معقولة يمكن من خلالها تبرير إحجام الحكومات الإتحادية عن تشكيل مجرد لجنة للبحث عن المقابر الجماعية ، مع علم الجميع أن هناك الآلاف من المقابر تتوزع على طول وعرض البلاد ، وأن هذه المقابر سوف تتعرض لأكثر من خطر بسبب عدم وجود لجنة بحث تعمل للوصول إليها والشروع بالإجراءات اللازمة التي تستوجبها الأعراف الوطنية والإنسانية والدينية ، فعدم وجود مثل هذه اللجنة هو ضياع تلك المقابر التي تقع على حدود المدن بسبب زحف التقدم العمراني عليها ، وهذا يعني إخفاء كل تلك الجرائم إلى الأبد . أما المقابر التي تقع في المناطق النائية فتقادم الزمن عليها يخفي معالمها شيئا فشيئا وهذا يعني صعوبة اكتشافها ، واختفاء معالم الجريمة التي يستوجب الحرص عليها لأغراض جنائية ، فالمقبرة الجماعية وفق القوانين الدولية والمحلية جريمة مكتملة الأبعاد ( ضحية ومكان ارتكاب الجريمة وجانٍ ) ، وأبقاء هذه الجريمة بعيدا عن التحقيق لفترة أطول يعني إضعاف الأدلة الجنائية التي تقودنا إلى الجاني ، وهذا الأمر يشكل  ظلامة كبيرة للضحايا وذويهم ، واي إهمال يؤدي إلى هذا الضياع هو بحد ذاته جريمة يعاقب عليها القانون ، إذا ما كان لدى الشعب وعي وثقافة تؤهله  للمطالبة بحقوقه .
والغريب في الأمر أن العراق البلد الوحيد من بين بلدان العالم التي تعرضت للتطهير العرقي والإبادة الجماعية ، ولم تبادر حكومته للإسراع في إجراءات البحث عن المقابر الجماعية ، فأما المقابر التي اكتشفت لحد الآن ، فقد تم اكتشافها عن طريق الصدفة من قبل عوام الناس كما أن هناك أشخاص يحتفظون في ذاكرتهم لأماكن تم فيها دفن ضحايا للنظام السابق ، بادروا إلى إخبار الجهات الرسمية عنها ، إضافة إلى ما تم الإخبار عنه من قبل القوات الأمريكية أو بعض المنظمات الإنسانية الأجنبية أثناء تجوالها في العراق بعد سقوط النظام . وكان المفروض أن تبادر السلطات العراقية بعد سقوط النظام مباشرة – وليس ثمة ما يمنع ذلك – إلى تأسيس لجنة متخصصة في البحث عن المقابر الجماعية يتم شيئا فشيئا تطوير قابلياتها اللوجستية والمالية لتسابق الزمن في اكتشاف المزيد من المقابر الكثيرة التي ما زالت مجهولة لحد الآن ، لكن لم يحصل ذلك حتى مع تحسن الأمن وتعاقب أكثر من حكومة على إدارة البلد ، ونحن نعتقد أن فشل الحكومة في ذلك يعد إخفاقا إنسانيا وتقصيراً في مسؤولية الدولة اتجاه الشعب . ومن السلبيات التي خلفها الإخفاق الحكومي أن أغلب المقابر الجماعية التي تم اكتشافها بشكل عشوائي تم العبث بها ولم يتم نبشها وفق المعايير العلمية المعمول بها في أماكن أخرى من العالم ، مما عرض الأدلة الجنائية إلى الضياع وهذا الأمر يصب في صالح الجناة الذين شاركوا في عمليات القتل والدفن ، وهم ما زالوا طلقاء وموزعين على دوائر الرسمية ولعل البعض منهم تقلد مناصب رفيعة في الدولة .
لم يتم لحد الآن اكتشاف أكثر من 300 مقبرة ، فيما تذهب التقديرات إلى وجود آلاف المقابر مما تحتوي على ضحيتين أو أكثر تم قتلهم ودفنهم بشكل فوضوي . وفي مقارنة بسيطة مع ضحايا المقابر الجماعية في البوسنة والهرسك يمكن لنا أن ندرك مدى خطورة التقصير في عدم تشكيل لجنة للبحث عن المقابر الجماعية في العراق .
لقد عرَّفت القوانين في البوسنة والهرسك المقبرة الجماعية على أنها : ( المقبرة التي تحتوي على أربعة جثامين ما فوق لضحايا دفنوا ليس وفق الأعراف الشرعية أو الإنسانية المتداولة ) . ولذا فإن البوسنيين أكتشفوا مايقرب الـ 500 مقبرة حسب التفسير أعلاه . أما المقابر التي تحتوي دون أربعة جثامين ، فإن المصادر البوسنية تؤكد أنها اكتشفت لحد الآن 3800 مقبرة . علما أن التقديرات لعدد المدفونين في مقابر جماعية في البوسنة والهرسك هو 30 ألف ضحية .
أما في العراق فقد عرَّفت المادة (2/3) من قانون حماية المقابر الجماعية رقم 5 لسنة 2006 المقبرة : (الأرض أو المكان الذي يضم رفات أكثر من شهيد تم دفنهم أو إخفائهم على نحو ثابت دون اتباع الأحكام الشرعية أو القيم الإنسانية الواجب مراعاتها عند دفن الموتى …) ووفق هذا التفسير فإن المقابر التي تم التعرف عليها من قبل العوام لاتزيد على 300 مقبرة . وهذا العدد يعتبر رقما ضئيلاً إذا ما أدركنا أن التقديرات الأولية تشير إلى وجود أكثر من 500 ألف ضحية تم دفنها في مقابر جماعية خلال فترة حكم النظام البعثي السابق . وإذا ما حاولنا الإستفادة من التجربة البوسنية فإن الضحايا فيها يقدر بـ 30 ألف وهو أقل من 1.8%  مما هو في العراق من ضحايا
، ومع ذلك فقد تم أكتشاف 3800 مقبرة ، مما يجعلنا نعتقد بوجود عشرات الآلاف من المقابر موزعة في أماكن مترقة في المحافظات العراقية .


جرائم ترفض أن تموت – الحلقة الرابعة

وبسبب الجهود الكبيرة للحكومة في البوسنة والاتصالات المكثفة مع حكومات الإتحاد الأوربي والمنظمات التي تعني بحقوق الإنسان ، وكذلك من خلال التنسيق مع الإدارة الأمريكية ، فقد تم تأسيس اللجنة الدولية لشؤون المفقودين بناء على مبادرة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون عام 1996 في مؤتمر القمة لمجموعة الدول السبع الذي انعقد في مدينة ليون الفرنسية . وكان دورها الأساسي هو تدعيم التعاون بين الحكومات في منطقة النزاع للتعرف على الهويات وتحديد الأماكن للأشخاص الذين تم فقدانهم خلال الصراعات المسلحة نتيجة لانتهاك حقوق الإنسان . وكانت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين تعمل على حث المنظمات الأخرى وتشجع مشاركة الجمهور في أنشطتها وتساهم في إيجاد العبارات المناسبة لتذكار وتكريم المفقودين .ثم تم تشكيل معهد المفقودين (MPI) للبوسنة والهرسك . وقد بني هذا الاقتراح على مبادرة من جانب مكتب الممثل السامي (OHR)  في عام 1997 وسمى بـ ( العملية المشتركة لإخراج الجثث ) التي مكنت الأطراف المتحاربة الثلاثة السابقة من إجراء عمليات استخراج الجثث ذات الصلة الخاصة بأشخاصها المفقودين في أرض ( الجانب الآخر) . وتم تسليم تنسيق العملية المشتركة لإخراج الجثث في نهاية المطاف إلى اللجنة الدولية لشؤون الأشخاص المفقودين التي قامت في صيف عام 2000 بتأسيس معهد الأشخاص المفقودين وتسجيله في محكمة كانتون سراييفو .ومنذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2001 ، كانت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين أول من استخدم الحمض النووي كخطوة أولى في التعرف على هويات أعداد كبيرة من الأشخاص المفقودين من الصراع المسلح . وقامت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين بوضع قاعدة البيانات لأكثر من 87000 من الأقارب لـ 29000 من المفقودين وأكثر من 31000 من عينات العظام التي تم أخذها من رفات الموتى المستخرج من المقابر السرية في بلدان يوغوسلافيا السابقة. تمكنت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين بمطابقة الحمض النووي من الدم وعينات العظام من تحديد الهويات لأكثر من 15000  شخص تم فقدانهم بسبب الصراعات والذين تم العثور علي رفاتهم في المقابر الجماعية الخفية .كانت إذن هناك رغبة حقيقية للحكومة في البوسنة والهرسك للتعامل مع ملف المفقودين بشكل فعال ، وهي لم تقتصر في بحثها عن المقابر الجماعية في الأراضي البوسنية أنما نجحت في الضغط على الأصراب من خلال الإتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية ومنظمة الأمم المتحدة والشروع بالبحث في المناطق التي يسيطر عليها الصرب المسيحيون ، فيما بقيت الكثير من المناطق في العراق محرمة على أي طرف حكومي أو مدني في البحث أو التحري عن المقابر الجماعية ، مثل المنطقة الغربية ، ونحن لانستغرب ذلك إذا ما أدركنا أن الحكومة العراقية أو الجهات التي كلفتها في تبني ملف المفقودين كوزارة حقوق الإنسان لم تقم بزيارات ميدانية إلى تلك المناطق ، لأنها لا تمتلك أصلاً لجنة متخصصة بالبحث عن المفقودين أو المقابر الجماعية سواء في المناطق الآمنة كالمحافظات الجنوبية أو تلك التي تتصف بالمناطق الساخنة كالأنبار وديالى وغيرها . كما لم نشهد أي دور للحكومات العراقية في الاتصال بالمنظمات الدولية التي تعني بشؤون المفقودين ، نعم هناك دور محدود ( للجنة الدولية لشؤون المفقودين )  في العراق بسبب الفتور والتهميش الذي يعتري ملف المفقودين في العراق ،  وكان في وسع العراق أن يتلقى الكثير من المساعدات الإستشارية والفنية منها فيما يخص وضع قاعدة بيانات لذوي الضحايا وأخذ عينات العظام للجثث التي تم إخراجها من المقابر الجماعية ، وخاصة أن هذه اللجنة تشكلت لهذا الغرض ، واستفادت من خبرتها الحكومة البوسنية  بشكل واسع في تحديد هويات ضحايا المقابر الجماعية ، كما أن لها نشاطات ، في أماكن أخرى من العالم ، بيد أن إهمال الحكومة العراقية لملف المقابر الجماعية وللمفقودين بشكل عام ، فوت الفرصة على الشعب العراقي من الإستفادة من هذه اللجنة .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق