التاريخ الدموي


مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام



-اسم الكتاب: مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام
-المؤلف: جواد هاشم الطبعة: الأولى 2003
-الناشر: لندن, دار الساقي
-عدد الصفحات: 350


عرض/ إبراهيم غرايبة

عمل المؤلف جواد هاشم وزيرا للتخطيط في حكومة البعث التي تشكلت بعد الانقلاب العسكري عام 1968، وبقي في دوائر الحكم حتى عام 1982 وقد اعتقل عام 1979، وكان رئيس الصندوق العربي للتنمية، ويعرض في كتابه هذا تجربته القائمة أساسا على مشاركته في الحكم مع حزب البعث العراقي.


انقلاب البعث عام 1968


كانت الأوضاع في العراق قبل السابع عشر من يوليو/ تموز عام 1968 تنذر بانقلاب عسكري بسبب تدهور الأوضاع السياسية، وضعف سيطرة رئيس الجمهورية العراقية عبد الرحمن عارف، وكان المرشح الأقوى لتنفيذ الانقلاب الحرس الجمهوري بقيادة إبراهيم الداود، والاستخبارات العسكرية بقيادة عبد الرزاق النايف.

وقد حاول النايف بالفعل التنسيق مع حزب البعث لترتيب انقلاب عسكري، وحدث الانقلاب بالفعل بالتعاون بين الاستخبارات العسكرية والتنظيم العسكري لحزب البعث بقيادة أحمد حسن البكر، ولكن بعد أسبوعين فقط انقض حزب البعث على حلفائه في الانقلاب، فأقيل النايف الذي عين رئيسا للوزراء بعد الانقلاب، والداود الذي عين وزيرا للدفاع، وقتل ناصر الحاني وزير الخارجية.

الخلافات والتصفيات الداخلية


كان حزب البعث برغم سيطرته العسكرية والأمنية على البلاد مليئا بالاختلافات الداخلية والتناقضات التي رافقت عمله طوال خمسة وثلاثين عاما أمضاها في الحكم، وقد أدت هذه الخلافات والتناقضات إلى حملة تصفيات دموية متلاحقة أصابت قادة الحزب وكبار الضباط العسكريين، وأدت إلى الارتجال في القرارات الفنية والمالية، والهدر والفساد.

كان التناقض السني الشيعي كان واضحا وطاغيا، وكان الكثير من قادة الحزب برأي المؤلف يحملون موقفا عدائيا وعنصريا تجاه الشيعة، ولا يرونهم عربا، وكان العنصر التكريتي قويا وغالبا في الحزب وتنظيماته منذ فترة مبكرة في عمله ونشاطاته العسكرية بخاصة.

كان البكر بطبيعته الأبوية والسلمية (نسبيا) وفي المرحلة الأولى من حكم البعث عندما كان هو الشخصية القوية في الحزب يعالج الخلافات والمشكلات بأقل قدر من العنف، ولكن في المرحلة التي صعد فيها صدام حسين نائبه بدأت مرحلة من التصفيات الدموية العنيفة بين الرفاق.

وكشف في عام 1970 عن مؤامرة لقلب نظام الحكم بقيادة صالح السامرائي، ولكن المجموعة الانقلابية كانت مخترقة من المخابرات (مكتب العلاقات العامة برئاسة أبو رعد، سعدون شاكر)، وألقي القبض عليهم أثناء اقتحامهم للقصر الجمهوري، وأعدم 34 شخصا، من بينهم رشيد مصلح التكريتي، ومدحت الحاج سري، وحسن الخفاف المخبر الذي كشف عن المؤامرة، ووضع أجهزة تسجيل بالتعاون مع المخابرات.

كان صالح مهدي عماش وزير الدفاع في حكومة عبد السلام عارف عام 1963 أهم قائد بعثي بعد البكر، وقد عين بعد انقلاب البعث عام 1968 نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للداخلية، ورئيسا لمجلس التخطيط، وكان هو المرشح ليكون نائبا لرئيس مجلس الثورة بدلا من صدام، ودخل عماش أيضا في صراع خفي مع حردان التكريتي وزير الدفاع.

أعفي حردان التكريتي من مناصبه عام 1970، وعين سفيرا في المغرب، وكان عندما صدر القرار يرأس وفدا رسميا في إسبانيا، فرفض الامتثال للقرار، وعاد إلى بغداد، ولكنه وضع في المطار في طائرة متجهة إلى الجزائر، ثم نقل إلى الكويت، واغتيل هناك في 30/3/1971، وفي اليوم التالي أعفي عبد الكريم الشيخلي وزير الخارجية من منصبه، ثم عين سفيرا للعراق لدى الأمم المتحدة، واستدعي عام 1980 ليعتقل ويسجن، ثم اغتيل برصاصة في رأسه عام 1980، وفي سبتمبر/ أيلول من العام نفسه أعفي عماش من جميع مناصبه، وعين سفيرا في الاتحاد السوفياتي، وتوفي عام 1985 في فنلندا في ظروف مريبة، وهكذا فقد صفي أهم ثلاثة في القيادة السياسية للحزب بعد البكر وصدام في المرتبة.

ويقول المؤلف إنه زار عماش في اليوم التالي لإقالته فخرجا إلى الحديقة للحديث بعيدا عن أجهزة التنصت، وأخبره عماش أن صدام يسعى للانفراد بالحكم، ويومها ستسيل الدماء أنهارا كما قال عماش. وظهر صدام حسين بعد تصفية هؤلاء الثلاثة باعتباره "السيد النائب" والرجل القوي في العراق.

وأعدم عام 1972 مدير الأمن العراقي ناظم كزار ومجموعة كبيرة من أعوانه بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم. واعتقل عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء بين عامي 1963 و1969 وعميد كلية الحقوق، وتعرض للتعذيب، ثم توفي أثناء علاجه في لندن عام 1971. وبدأت كفة صدام ترجح على كفة البكر منذ عام 1974، فقد اكتمل له في ذلك العام رئاسة مجلس التخطيط، والتربية، والشؤون الاقتصادية، والنفط، والمخابرات العامة، والأمن القومي، والمكتب العسكري، والطاقة الذرية، والثقافة والإعلام، والبحث العلمي، واللجنة العليا لشؤون الشمال، ولم يعد يرتبط بالبكر سوى المجلس الزراعي الأعلى، ومكتب الشؤون القانونية، الهيئة العليا للعمل الشعبي.

كانت هذه المكاتب واللجان تعمل بموازاة الوزارات ولكنها كانت أقوى منها، وتحول إليها بالفعل اتخاذ جميع القرارات والصلاحيات، وظل الأمر كذلك حتى عام 1979 عندما استولى صدام على رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء فانتقلت إليهما المهمات الأصلية للحكم، وقلصت اللجان إلى درجة الإلغاء، وكذلك مجلس قيادة الثورة.

صدام يسيطر

بدأ صعود صدام بالتخلص من عماش، فقد حل مكانه فورا، وخسر البكر في الوقت نفسه ساعده الأيمن الذي كان يعده ليكون رئيسا للوزراء، وكان أهم تعديل وزاري في العراق بعد انقلاب عام 1968 هو ما جرى يوم 30 نوفمبر/ تشرين ثاني من عام 1974، وكان صدام وراء هذا التعديل، فقد عين مجموعة القادة الموالين له، وأبعد من يشك بولائه منهم، وكان هذا التعديل أيضا استبعادا نهائيا للشيوعيين والقوميين العرب شركاء البعث.

وقد اعتبرت الإدارة الأميركية هذا التعديل مكسبا كبيرا لها، فقد استبعد الشيوعيون والمتطرفون من القوميين والبعثيين، واختير مجموعة من الوزراء المعتدلين وبعضهم من خريجي الجامعات الأميركية، وهذا ملخص لتقرير سري لشعبة المصالح الأميركية يورده المؤلف، ويذكر أن رقم الوثيقة هو: PR131130.

ومن الوزراء الموالين لصدام الذين عينوا بعد التعديل كان طارق عزيز (الإعلام والثقافة)، وسعدون حمادي (الخارجية)، ونعيم حداد (الشباب)، وتايه عبد الكريم (النفط)، ومحمد محجوب الدوري (التربية والتعليم)، وكان هؤلاء قد انتخبوا في مجلس قيادة الثورة قبل شهور قليلة من توليهم الوزارة.

وتوالت التصفيات الدموية للرفاق، شفيق الدراجي أمين السر العام لمجلس قيادة الثورة، عين سفيرا في السعودية، ثم توفي بالسكتة القلبية، وطارق العبد الله، الذي عين وزيرا للصناعة بعد أمانة سر مجلس قيادة الثورة، ثم وجد مقتولا، وقيل إنه انتحر متأثرا باكتئاب حاد، ومحيي الدين المشهدي عضو القيادة القطرية وعضو مجلس قيادة الثورة وأمين سر المجلس، أعفي من منصبه بعد تولي صدام للرئاسة بأيام، ونفذ فيه حكم الإعدام، وخالد عبد المنعم الجنابي، صديق صدام الحميم الذي دفعت به هذه الصداقة إلى أمانة سر مجلس قيادة الثورة، ثم مات بالسكتة القلبية أثناء اجتماع لمنظمة الأغذية والزراعة (فاو) في روما.

كانت تنحية البكر عام 1979 أشبه بانقلاب أو تنازل جبري تم في منزل خير الله طلفاح خال صدام ووالد زوجته، وبحضور كل من صدام والبكر، وهيثم بن البكر، وعدنان خير الله، وجرى شجار في ذلك الاجتماع أطلق فيه الهيثم النار على عدنان خير الله، ولكن البكر الذي فهم اللعبة تماما أعلن تنازله عن رئاسة الجمهورية وجميع مناصبه لأسباب صحية, واعتزل الحياة السياسية والعامة حتى وفاته.

وبعد أيام من توليه السلطة أعدمت مجموعة من قادة البعث الكبار، وبعضهم من مؤيدي صدام وأصدقائه، مثل محيي المشهدي، وعدنان حسين الحمداني، ومحمد محجوب الدوري، وعبد الخالق السامرائي أحد أهم قادة البعث بل أهمهم على الإطلاق والذي اعتقل عام 1974 ثم أعدم عام 1979، ومحمد عايش، وغانم عبد الجليل، ووليد محمود سيرت، وبدن فاضل، وخالد عثمان، وحكم بالسجن على مجموعة كبيرة من الوزراء والقادة.

وجرد منيف الرزاز من جميع مناصبه في القيادة القومية لحزب البعث، ووضع في الإقامة الجبرية، ثم توفي بنوبة قلبية، وقتل عدنان خير الله وزير الدفاع الحليف المهم لصدام في حادث طائرة لا يستبعد أن يكون مدبرا، وفي عام 1995 هرب اثنان من أبناء عم صدام وأصهاره ومن القادة العسكريين إلى عمان، وهما حسين كامل وصدام كامل، ثم عادا إلى بغداد وتمت تصفيتهما.

أحمد حسن البكر

ربما يكون مهما تخصيص البكر بجزء من هذا العرض، فقد ألقيت ظلال كثيفة على شخصيته وتاريخه، ولم يعد يعرف عنه شيء برغم أنه من مؤسسي حزب البعث وأكبر قادته سنا، وكان يعتبر بمثابة الأب للبعثيين.

ولد البكر في تكريت عام 1914 وتخرج في دار المعلمين، وعمل في التدريس، ثم دخل الكلية العسكرية، ووصل عام 1958 إلى رتبة عقيد، وشارك في انقلاب عام 1963 وعين نائبا لرئيس الجمهورية ورئيسا للوزراء، وكان رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء بعد انقلاب البعث عام 1968.

كان البكر وصدام يبدوان يكمل بعضهما بعضا في الحزب والقيادة، فقد كان صدام مسؤولا عن الأمن، والبكر مسؤولا عن الجيش، ولم يكونا يبدوان مختلفين، وإن كان واضحا أن صدام هو الأكثر أهمية ونفوذا في الحزب والدولة، وأنه يصعد إلى أن اكتملت سيطرته على مرافق الدولة والحزب عام 1974، وبرغم ذلك فقد كانا يبدوان متفقين حتى عام 1979 عندما أجبر البكر على تقديم استقالته.

ربما يكون سبب الخلاف بين صدام والبكر أن الأخير كان متحمسا للوحدة مع سوريا، وكان يتحرك باتجاهها بخطوات متسارعة، ومن ثم فقد أعلن فور استقالته عن مؤامرة تدبرها سوريا بالتعاون مع مسؤولين عراقيين.

يصف المؤلف البكر بأنه "كان البكر بسيطا ومتواضعا في مسكنه وملبسه وتصرفه مع عائلته، وكانت بساطته في شؤون الدولة الاقتصادية والمالية تصل إلى حد السذاجة، وكان يتدخل في كل كبيرة وصغيرة، إلى الحد الذي يدعو إلى التساؤل: كيف يستطيع الرئيس التفكير إستراتيجيا؟ وهل لديه الوقت للتفكير.

وكان مصابا بمرض السكري، وهو مرض يحدث اختلالا في مزاج المصاب به، فيتحول بين الهدوء والثورة بسرعة، وهكذا فقد كان البكر يثور لأتفه الأسباب، ويتخذ قرارا ثم يهدأ بعد ساعة فيلغي القرار.

وكانت هوايته الوحيدة هي الاستماع إلى الغناء الريفي، وبخاصة "السويحلي" و"العتابة" و"النايل"، وكان مطربه المفضل هو الملا ضيف الجبوري، الذي نقله البكر من حارس لعمارة إلى نجم إذاعي وتلفزيوني يهيمن على شاشة الإذاعة والتلفزيون.
ومن الطريف أنه كان في أحد اجتماعات مجلس قيادة الثورة عندما سمع مغنيا لم يعجبه، فرفع سماعة الهاتف واتصل بمحمد سعيد الصحاف مدير الإذاعة والتلفزيون قائلا بعصبية: من هو هذا المغني القبيح، أبعدوه عن التلفزيون، ومنذ تلك الليلة لم يظهر ذلك المغني إلا بعد وفاة البكر.

وغضب من الدكتور فوزي القيسي المدير العام لمصرف الرافدين، وطلب من المؤلف الذي كان وزيرا للمالية بالوكالة بالإضافة إلى كونه وزيرا للتخطيط إحالته إلى التقاعد تمهيدا لاعتقاله، فأسر هاشم إلى القيسي بالسفر فورا إلى بيروت تحت غطاء زيارة فرع المصرف هناك والبقاء في بيروت إلى حين تهدئة الأمور، وأمكن بالفعل بعد أيام من تهدئة البكر العدول عن اعتقاله، ثم عمل القيسي مديرا للبنك المركزي ووزيرا للمالية، واعتبر من الكفاءات النادرة، وعندما توفي عام 1979 شيعت جنازته في مشهد مهيب لم يحظ به وزير بعثي من المدنيين.

وفي إحدى المرات رأى الحرس يضربون شابا يحاول الاقتراب من موكبه، فأوقف السيارة وأركب الشاب بسيارته، وكان الشاب يريد تقديم التماس للرئيس بقبوله في الكلية العسكرية فأمر بقبوله ومنحه مائتي دينار.

وعلم مرة عن علاقة مريبة بين أحد المديرين وسكرتيرته فأمر بأن يكون جميع العاملين بالسكرتاريا في المكاتب الحكومية من الرجال، وكان مستاء من الجيل الجديد من البعثيين ويصفهم بأنهم قساة وطائشون ومتورطون في القصص الغرامية وفي ظلم الناس وإيذائهم، وفي إحدى المرات شتمهم قائلا "أولاد الحرام اعتقلوا الدكتور شامل السامرائي وزير الداخلية في حكومة عبد الرحمن عارف، وعذبوه حتى تحول إلى نصف إنسان، إذا استمر هؤلاء في نهجهم هذا فسيطردنا الشعب يوما بالكرباج".
وهكذا يسرد المؤلف عدة قصص عن بساطة الرجل وطيبته، وفي الوقت نفسه ارتجاله وعدم خبرته بالمسائل الاقتصادية والمالية بخاصة. 



الجزيرة



***    ***     ***     ***

ويقينا أن ما سجله الدكتور جواد هاشم من لقطات بقيت في ذاكرته ، يساهم من خلالها في أبراز الصورة الحقيقية لبعض الشخصيات التي تسلقت السلطة في العراق ، كما انه ساهم بشكل حيادي في توصيف بعض تلك الشخصيات بشكل محايد بقدر الإمكان ، وبذلك فأنه تنحى جانبا عند التعرض للتحليل النفسي والاجتماعي ، تاركا الأمر الى المختصين في هذا المجال للتعمق في تحليل تلك الشخصيات التي مرت في التاريخ العراقي ، ومنها البكر وصدام والجزراوي وبعض الأسماء التي مرت في الذاكرة العراقية . 


قدم الكتاب بفصل تضمن بيانات ومعلومات أساسية عن العراق ، ثم عرض وقائع مهمة من تأريخ العراق المعاصر ، غير أن الكاتب لم يعط وجهة نظره في انقلاب 8 شباط 63 ، ولا ما عكسته من نتائج سلبية على صعيد المستقبل العراق ، ويمكن أن يكون تبرير هذا التغافل ناتج عن عدم وجوده في العراق ، الا أن السيد جواد هاشم يوضح مراحل تعرفه على البعث منذ العهد الملكي ، وانتسابه الى تنظيمه ، ولقاءاته المتكررة مع قياداته ، يوجب عليه أن يعطي وجهة نظره في تلك الأهداف وتلك الممارسات ، وما جرت على للعراق من ويلات وخراب لم يزل يعاني منها حتى اليوم ، والى أين انتهت تلك الأهداف والشعارات ؟ ورأيه الشخصي من خلال عمق التجربة السياسية والعملية التي خاضها ، ابتداءا من الزمن القومي وحتى الزمن البعثي الثاني ، وانتهاءا بخضوعه الى التحقيقات في سجن المخابرات العامة . 


يشير السيد جواد هاشم في الصفحة 31 من كتابه الصادر عن دار الساقي 2003 ، أن السيد علي صالح السعدي ( كان أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث في العراق ) ، والذي أقصي من مركزه الحزبي والوظيفي ، وتم إبعاده الى مدريد ، صرح بأن القيادة الجديدة ( قيادة البكر ) غير شرعية وإنها جاءت ( بالقطار الأمريكي ) ، وبالرغم من ترديد تلك التهمة التي ينفيها البعثيون وتؤكدها قياداتهم ، ( لاحظ مذكرات طالب شبيب – ومذكرات هاني الفكيكي ) ، الا أن السيد جواد لم يعط رأيا حول عربات ذلك القطار ، حيث يذكر في الصفحة 271 من الكتاب انه يفتقد الى الوثائق التي تدعم تلك الأقاويل ، ويتابع انه بحث كثيرا في الوثائق فلم يعثر على الكثير ، ومع هذا فلم يكشف لنا هذا القليل ، غير انه وجد على وثيقة واحدة صادرة من شعبة المصالح الأمريكية في بغداد بتاريخ 24 أبريل / نيسان 1980 تشير الى وجود مصدر موثوق به داخل القيادة العراقية وله اتصال مباشر مع الإدارة الأمريكية !! دون أن يتعرف أو يكشف أسم العنصر . 


ويعرض أيضا في فصل خاص بعض الشخصيات والأحداث المهمة في تاريخ العراق ، 


فيشير السيد جواد هاشم في الصفحة 49 من الكتاب الى حادثة مهمة تؤكد التزام الدولة العراقية بالطائفية منذ العهد الملكي ، وما تعرض له السيد جواد في عدم قبوله بكلية الطيران ، بالرغم من المكانة الاجتماعية والإمكانيات المالية التي تميز بها والده وعائلته ، تدل بشكل واضح وصريح ما كان يدور في أروقة الدولة العراقية . 


في مطلع العام 1967 عاد الدكتور جواد هاشم الى العراق ، وتمكن أن يحتل مواقع متقدمة في الدولة العراقية ، باعتبار أن الخط القومي الحاكم في تلك الفترة ، والذي أشار له الدكتور هاشم ، حيث حدده حسب وجهة نظره ، في مركز القرار المتمثل بكل من طاهر يحيى التكريتي والدكتور عبد العزيز الدوري والدكتور خير الدين حسيب ، وخلال عمله بمجلس التخطيط تعرف على البكر ، يذكر الدكتور هاشم انه قام بتزويد البكر بمحاضر جلسات المفاوضات مع شركات النفط بصورة سرية ، مع تزويده بتحليلاته وآراءه في تلك المفاوضات ، بالإضافة الى تعاونه في تعيين أعداد من خريجي الدراسة الإعدادية حسب طلب البكر في أماكن محددة ، وتعددت لقاءات الكاتب بالبكر ، وبالرغم من علم السلطة بهذه اللقاءات ، فأن أي إجراء أمني أو احترازي لم يتخذ بشأنها ، ما يدل على تساهل النظام القومي مع تحرك البكر ومجموعته في تلك الفترة ، وتمكينهم من استعادة السلطة بيسر وسهولة بذلك الانقلاب الداخلي يوم 17 تموز 1968 . 


يذكر الدكتور جواد هاشم في الصفحة 66 أن طاهر يحيى التكريتي سأله عند تقديمه أوراق المتقدمين للعمل ، (( أن هل قابلت المتقدمين الى العمل شخصيا للتأكد من صحة المعلومات ، أجبته نعم قابلت اغلبهم وتأكدت من صحة المعلومات . 


سكت رئيس الوزراء برهة وعاد يتصفح الوثائق التي أمامه ، ثم فاجأني بسؤال جديد . 


- هل كانت مقابلتك لأحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش جيدة ؟ 


- ارتبكت وهممت بتدبير جواب لسؤال غير متوقع ولكن طاهر يحيى أردف قائلا : 


- دكتور نحن جميعا على درب (( أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة )) مثلنا في ذلك مثل البكر وعماش ..... )) 


وفي الصفحة 93 يذكر السيد جواد هاشم عن سؤال صالح مهدي عماش عن أسباب اختياره الدكتور عبد العال الصكبان وكيلا لوزارة المالية ، وهو على حد تعبير عماش من العناصر الرجعية والناصرية وهو أيضا من أهالي الديوانية . 


وتلك الإشارة المهمة التي ستقترن بأدلة أخرى تؤكد نمط التفكير الذي يفكر بها قادة الحكم البعثي ، ومجرد كون الدكتور الصكبان من أهالي الديوانية تشكل له تهمة كبيرة ، حيث أن أهل محافظات الفرات والجنوب ضمن دائرة إتهام السلطة . 


وفي الصفحة 94 يشير الكاتب الى ما قاله خالد مكي الهاشمي وزير الصناعة من أن الدكتور رشيد الرفاعي وعلي الجابر من صنف واحد بينما الدكتور عدنان شريف من جماعتنا الشرفاء ( والقصد الطائفي هنا واضح ) حيث أن الرفاعي والجابر شيعيان . 


والحادثة المهمة التي تعتبر من الشهادات الأكثر أهمية ما أورده الدكتور جواد هاشم في الصفحة 95 حيث يقول : 


( دخلت المكتب فوجدت فيه وزيرين آخرين هما الدكتور احمد عبد الستار الجواري وزير التربية ، والفريق حماد شهاب التكريتي وزير الدفاع وعضو مجلس قيادة الثورة ، ويبدو أن الجواري وشهاب كانا في حديث عن محافظات العراق ، سمعت شهاب يقول للجواري إن جميع سكان المنطقة التي تقع بين المحمودية وجنوب العراق هم (( عجم )) ، ولابد من التخلص منهم لتنقية الدم العربي النقي . 


استغربت كلام حماد شهاب وقلت له : فريق حماد انا من مدينة عين التمر التابعة لكربلاء ، وحامد الجبوري من مدينة الحلة ن فهل يعني إننا عجميان ؟ ام انك تقصد شيئا آخر , تردد شهاب في الإجابة وتدخل الجواري محاولا ( تصحيح ) ماتفوه به شهاب ........ 


بلغ بي الانزعاج حد إني تناولت ورقة من مكتب حامد الجبوري وقررت تقديم استقالتي من الوزارة ، كتبت استقالة من سطرين وتوجهت الى مكتب سكرتير رئيس الجمهورية بانتظار مقابلة البكر . 


لم يطل انتظاري ، دخلت على الرئيس وعلى محياي مظاهر الامتعاض ، بادرني الرئيس بالسؤال عن سبب امتعاضي ، فأخبرته بما حصل ، وقدمت إليه الاستقالة ، قرأها الرئيس ثم ابتسم وأردف قائلا : الا تعرف حماد شهاب انه رجل بسيط لايفهم من أمور السياسة شيئا .


- ولكنه ياسيادة الرئيس عضو في مجلس قيادة الثورة ، فإذا كان هذا منطق عضو في أعلى سلطة في البلد فكيف يمكن للعراق أن يتقدم ، الا يعكس قول حماد شهاب اتجاها خطيرا لمسيرة الحكم . 


- ضحك البكر وقال : دكتور لايمثل حماد شهاب أي اتجاه ، حماد شهاب حمار ، ثم مزق الاستقالة . ) 


وهذه شهادة مهمة يدلي بها البكر بحضور الوزير جواد هاشم بحق حماد شهاب الذي كان يقود اخطر وأقوى مؤسسة في العراق ، فهو رجل بسيط لايفهم من أمور السياسة شيء ومع هذا كان عمودا من أعمدة السياسة العراقية ، وعضوا في أعلى سلطة تشريعية ، وهذا الرجل البسيط ليس سوى حمار في إشارة الى أن ليس له عقلا يستحق التقدير كما يقول البكر . 


أما ماقاله حماد شهاب بحق الشعب العراقي من المحمودية حتى أخر نقطة في الفاو ، فهو بحق النظرة التي كان يقولها خير الله طلفاح ومعه كل الذين مارسوا تلك السياسة المريضة في التسفير والحجز والإعدامات بقصد التخلص من تلك الدماء التي قد تلوث نقاء الدم العربي على حد فهمهم ، وهذا القول هو اتجاه فعلي وواقع ضمن السياسة العراقية ، وتلتزم به مدرسة من السياسيين التي حكمت العراق أو التي لم تزل خارجه ، وليس أكثر مما قاله صدام حسين في مقالاته التي رتبها له محسن خليل في جريدة الثورة بعد الانتفاضة الشعبية في العام 1991 بعنوان لماذا حصل هذا ؟ ظهر فيها الحقد الطائفي المقيت ضد أبناء العراق ، وأعاد الصورة المرسومة في عقل الوزير الحمار مرة أخرى من عقل القائد الضرورة حيث يشكل قاسمهما المشترك دوما ، فهما أبناء مدرسة واحدة . 


المفارقات التي يذكرها الوزير جواد هاشم والتي كان على علم بها عديدة ومهمة ، وتدل على النماذج من العقليات التي كانت تتصرف بأمور البلاد والعباد . 


غير أن شهادة مهمة يضيفها الكاتب على لسان جمال عبد الناصر في الصفحة 115 ، بعد الزيارة الرسمية التي قام بها بصدد اختيار صدام نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة بقوله : 


( علق جمال قائلا : أن اختيار نائب رئيس مجلس قيادة الثورة أمر يعود الى الأخوة في العراق ، ولكن الواد صدام إحنا عارفينو ، ده طايش وبلطجي ) . 


وهذه الشهادة التي يدلي بها عبد الناصر لم تأت من فراغ ، إنما ترسخت لديه تلك المعلومات الدقيقة التي ترفعها له أجهزة المخابرات المصرية ، عن تلك الشخصية التي حكمت العراق ، وطايش من الطيش ، وبلطجي تعبير مصري شعبي عن المحتال والرجل الذي لا تقيده ضوابط أخلاقية أو اجتماعية ، حيث تكونت تلك المعلومات عن صدام من خلال وجوده في القاهرة كلاجئ بعد عملية محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم . 


وثمة أشارة في الصفحة 148 ، بتأميم حصة كولبنكيان الذي كان يمتلك 5% من امتيازات النفط العراقي ، وتقييد تلك النسبة من العائدات باسم قيادة الحزب ، والاحتفاظ بعوائدها السنوية بحساب مستقل خارج العراق تحت أشراف صدام حسين . 


أن هذه المبالغ المتراكمة والتي بلغت حسب تخمينات الكاتب ولغاية العام 1990 واحد وثلاثين مليار دولار ، مع افتراض استثمارها بنسبة تصل الى 18% ، فكم من المليارات وصلت هذه العوائد اليوم ؟ وأين استقرت تلك المليارات بعد أن عانى أهل العراق خلال فترة الحصار الدولي ؟ وماذا عملت الحكومة العراقية الحالية لاكتشافها واستعادتها ؟ خصوصا بعد صدور قرارات دولية تلاحق التنظيمات الإرهابية وعمليات غسيل الأموال وعمليات الإثراء غير المشروع والسرقات الكبيرة من أموال الشعوب .


كما أشار في الصفحة 189 الى كلمة طارق عزيز في تشرين الأول 1989 معربا عن شكر حكومة صدام وامتنانها لمساعدات الحكومة الأمريكية ووكالة الاستخبارات الأمريكية ( السي أي أيه ) في تزويد العراق بالمعلومات التعبوية والصور الفضائية التي ساعدت العراق في حربه مع إيران .


وفي الفصل الخاص بالزنزانة رقم 7 ص 231 يؤكد المؤلف على الأساليب المخابراتية التي ينهجها النظام ، والطرق التي يتبعها في التعامل مع من يشك في ولاءه للقائد الضرورة ، فكل عراقي متهم مهما كان مركزه ، والقواعد التي يتم الاستناد عليها في تلك الاتهامات التي قد تنهي حياة الشخص ، هي تلك الإخباريات والتقارير التي لاتقبل المناقشة . 


ويشير الدكتور جواد في الصفحة 256 على الوظائف التي جمعها صدام والتي تشكل هاجسا نفسيا يعبر عن نزوعه للطغيان والدكتاتورية ، فهومسؤول عن مجلس التخطيط والمخابرات العامة ومجلس الأمن القومي ومكتب الشؤون الاقتصادية والمكتب العسكري ولجنة شؤون النفط والاتفاقيات ومكتب الثقافة والأعلام ومؤسسة البحث العلمي واللجنة العليا لشؤون الشمال ، بالإضافة الى كونه نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ، ثم صار رئيسا والقائد العام للقوات المسلحة ومنح رتبة مهيب ركن وهو المتخلف عن الخدمة العسكرية ، بالإضافة الى أمانة سر القطر ، وفي هذه الفترة يختزل الدكتور هاشم المرحلة بقوله ( لقد أصبح الاستثناء هو القاعدة ، والقاعدة هي الاستثناء ! ) . 


غير أن الدكتور جواد هاشم ينفرد بمعلومة مثيرة للجدل قد تكون وجهة نظره في أن يكون طه ياسين رمضان من الأيزيديين ( ص 261 ) ، ولعله عرف تلك المعلومة ممن اعتقد ذلك الأمر ، وفي الحقيقة أن طه ياسين رمضان من منطقة العشائر السبعة ، وهو كوردي القومية تنكر لقوميته وأهله ، وكان صدام كثيرا ما يغمزه بتلك القناة ويتندر عليه . 


أما المعلومة الثانية فهي اعتقاد الدكتور جواد أن ناظم كزار من أبناء الديانـــة المندائية ( هامش ص 215 ) ، بينما لم يؤكد هذه الحقيقة احد ، ومهما يكن دين أو مذهب كلا الأسمين ناظم كزار أو طه رمضان فقد تركا خلفهما تأريخا مليئا بالدماء والجرائم والسمعة الملوثة ، واستحقا لعنة العراق والتاريخ . 


وفي الصفحة 338 ينقل الكاتب جواد هاشم صورة اجتماع العائلة الحاكمة ، وما دار من أحداث ومناوشات وقرارات ، ذلك الاجتماع الذي أداره خير الله طلفاح بحضور البكر وصدام وعدنان خير الله وهيثم احمد البكر . 


لم يكتب السيد جواد عن درجته الحزبية ؟ ولم يوضح أسباب انسحابه أو بقاءه في حزب البعث ؟ وماهي الدرجة الحزبية التي وصلها ؟ ولا رأيه بحزب البعث عند كتابة مذكراته . 


ينهي الكاتب كتابه بكلمة أخيرة بحق صدام الذي صار القائد الضرورة ، فيقول في الصفحتين 349- 350 : أمتهن صدام كرامة العراق من دون مبرر أو منطق ، وسحق المواطن العراقي فجعله مزدوج الشخصية وغير قادر على التحرر من الخوف ، وحارب الفكر بالقرباج ، والقلم بالسيف ، والرأي بالاعتقال ، والعدل بالعضلات ، وألغى حلقات التاريخ بحث أصبح بطل الأمس خائنا ، ومفكر اليوم جاهلا . 


ولست أدري كيف سيواجه صدام نفسه ، وهو يقف إمام مرآة التاريخ ، فيرى ماجره من ويلات على العراق ، هذا البلد الغني بأرضه ومائه ونفطه وبشره .


هل سيتذكر صدام الذين سقطوا صرعى رصاص غدره ؟ 


هل سيتذكر المليون من شباب العراق ممن لقوا حتفهم بسبب حروبه ومغامراته العسكرية ؟ 


هل سيتذكر ؟ هل سيندم ؟ 


لأاعتقد ذلك ولكنه سيسمع صوتا قادما من بعيد ليقول له ولزمرته : الا تبت أياديكم ! 


وتأتي شهادة الدكتور جواد هاشم وأن كانت متأخرة ، شهادة قريبة من موقع الأحداث ، ومساهمة في العديد من الأحداث ، وبالتالي فأن الدكتور جواد كان ينقل في تلك الشهادة المقتضبة ، والتي لم يشأ أن يتوسع بها ، بالرغم من حاجة التاريخ العراقي المعاصر لمثل تلك الشهادة التي تخللها الكثير من الاعتدال والتحليل الواقعي والمنطقي ، البعيد عن العواطف والميول الذاتية ، وباعتبار أن الشهادة التي ذكرها الدكتور جواد هاشم تصلح أن تكون أساسا يمكن أن تساهم في رسم صورة للعراق ، المليء بالجراح والأسرار والخفايا ، والمحكوم بالحديد والنار ، والخارج توا من الآتون ، وهو محمل بجراحه وجوع أبناءه وخراب أرواحهم ، وتبعثر مقابرهم ، وتبعثر أولاده مثل تبعثر ثرواتهم ، ولنا ألأمل أن يتوسع الدكتور جواد هاشم في رسم العديد من الحقائق التي لم تزل ذاكرته الحية ، والتي كان شاهدا عليها ، وهي مهمة وطنية يتطلبها التاريخ العراقي لمن يتصدى لكتابة التاريخ بضمير نقي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق