2012/03/13

جرائم ترفض أن تموت (الحلقة الخامسة )


د. طالب الرماحي 

 

خامساً – تشريع قانون متكامل يفي بمتطلبات ملف المقابر الجماعية:
لم يخف على رموزنا السياسيين والذين تقع عليهم مسؤولية حماية حقوق الشعب بكل أبعادها الإنسانية والمادية والسياسية ، من أن ملف المقابر الجماعية هو ملف إنساني خطير لايحسن السكوت عنه ، فأقدموا على القيام ببعض الخطوات الخجولة 
من قبيل دفع الحرج أو ذر الرماد في العيون كما يقول المثل الشائع ، وسوف نتطرق إلى تلك الخطوات بالتفصيل في الحلقات القادمة ، لكننا في هذه الحلقة ونحن نتكلم عن الأمور المهمة التي يتطلب الإسراع في القيام بها ومنها قانون ( حماية المقابر الجماعية رقم 5 لسنة 2006 ) ، فمع تأخر إصدار هذا القانون المفترض ان يتضمن بنودا عملية وواضحة للحفاظ على حقوق الضحايا وذويهم ، فقد جاء ضعيفاً وصيغت بنوده بشكل أصبح فيه غير قادر على الحفاظ على حقوق الضحايا وذويهم أو حقوق الأمة التي ينبغي أن يضعها في ديباجته فضلاً عن مضمونه ، وكان لجهود الأستاذ عدنان سبهان في قسم المقابر الجماعية أثرا واضحاً في إصدار هذا القانون حيث كتب مسودته في فترة مجلس الحكم ، وكتبت صيغته النهائية بالاستعانة ببعض القانونيين المتخصصين . وتمت المصادقة عليه من قبل البرلمان العراقي في حكومة نوري المالكي . يقول الإستاذ سبهان : أن القانون كتب على عجالة وكنا نسعى من خلاله إلى إيقاف عمليات النبش العشوائي التي كانت تتعرض له المقابر الجماعية المكتشفة . وهذا يعني ضرورة إعادة صياغة القانون ، بعد أن اشار كاتب مسودته إلى الظروف غير الطبيعية التي كتب فيه لأول مرة .

لقد أسندت مسؤولية تنفيذ القانون إلى قسم المقابر الجماعية التابع لمديرية الشؤون الإنسانية  في وزارة حقوق الإنسان ، وقد فشلت الوزارة في تنفيذ أي من بنود القانون ، كما أن الحكومة العراقية لم تبادر إلى إيجاد مرجع قوي يتبنى تنفيذه ، وهذا يأتي ضمن سياق التهميش الذي يتعرض له ملف المقابر الجماعية  لكثير من الأسباب تعرضنا إلى بعضها فيما سبق ، فتحول القانون تبعاً لذلك إلى عائق في طريق التعامل مع هذا الملف الإنساني .
ومن أجل أن نبين خطورة عدم تعديل القانون أو تبعات عدم إعادة صياغته من جديد ، فإننا نشير إلى المشاكل التي يعاني منها  ، والأسباب التي جعلته لايفي بالحد الأدنى لمتطلبات هذه الجريمة الكبرى .

مشاكل قانون حماية المقابر الجماعية
نعتقد ان القانون لم يُستفد منه إلا ضمن حدود منع نبش المقابر من قبل العامة ، وحتى هذه الفائدة فإنها محدودة فالقانون صدر بعد أن تم نبش غالبية المقابر التي عثر عليها ، بعد سقوط النظام البعثي السابق وإشاعة الفوضى في البلاد إثر غياب الرقابة الحكومية ، كما أن البحث عن مقابر جديدة متوقف لعدم وجود ( لجنة رسمية ) متخصصة بذلك ، فبدى القانون وكأنه من غير راع يعمل على تطبيق بنوده ويحقق المصلحة التي صيغ من أجلها ، كما أنه تعامل مع المقابر الجماعية على أنها مشكلة وليست جريمة تاريخية كبرى ، ففقراته بائسة تحمل في طياتها تناقضات قانونية تصل الى حد التصادم مع الدستور، ويتضمن الكثير من الإشكالات نرغب في طرحها بشكل مختصر وكما يلي :

1-    تعامل القانون مع الجريمة محلياً وأغفل جانباً مهما وهو الجانب الدولي  وخاصة أن ضحاياها أعداد كبيرة تصل إلى مئات الآلاف ، ناهيك من أنها ووفق معايير القانون الدولي وقوانين منظمات حقوق الإنسان تعتبر من جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي  ، فلابد أن يكون لمثل هذه الجريمة الكبرى بعدا دوليا  لم يشر إليه القانون أبدا  وحجَّمها بالبعد الوطني .

2-    وفق قوانين لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة وكل منظمات حقوق الإنسان ،لايوجد مصطلح ( المقابر الجماعية ) وأنما يوجد مصطلح (إبادة الجنس البشري Genocide ) ولذا فإن من ثغرات هذا القانون عدم الإشارة إلى أن ما حصل في العراق زمن النظام السابق من جرائم المقابر الجماعية هو إبادة للجنس البشري كما أن القانون لم يشر إلى ضرورة استحصال اعتراف من البرلمان العراقي بهذه (الإبادة ) كمقدمة لأعتراف إقليمي وعالمي ، ولو أن القانون تضمن فقرة تعتبر المقابر الجماعية إبادة جماعية وتطهير عرقي ، لأكتفينا بهذا القانون ، وطلبنا من لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الإنسانية الدولية الإعتراف بتلك الجرائم ، طالما أن القانون مصادق عليه من قبل البرلمان العراقي ، الذي تمثل إرادته إرادة عامة الشعب العراقي .

3-    يشكل القانون تعارضا واضحا بين السلطة التنفيذية ( وزارة حقوق الإنسان هي جزء من الحكومة ) والسلطة القضائية كون الملف تحت إشراف السلطة القضائية باعتبارها جريمة خاضعة لمواد القانون ( قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا ).
4-    ان القانون يحصر تنفيذه بوزارة حقوق الإنسان وهذا خلل واضح فالوزارة ذات إمكانيات محدودة ولا تتلاءم مع حجم الملف الكبير فحسب ، بل لأن العمل في هذا الملف يتطلب تنسيق مع أكثر من جهة ( وزارة الصحة ، وزارة الداخلية ، وزارة العدل  ، وزارة الإشغال العامة  وغيرها ) كما أن هناك مسؤولية أكبر للسلطة القضائية . وقد اعترفت وزارة حقوق الإنسان بهذا العجز بشكل واضح وهي تشير إلى المعوقات بردها المرقم ( م / 684  في 23 تموز 2009 ) على تقرير ( مركز العراق الجديد للإعلام والدراسات ) المرسلة إليها بتاريخ 12 تموز 2009 مرفقة برسالة مكتب رئيس الوزراء  العراقي المرقم  ( 19/3484 في 22 تموز 2009 )   .

5-    القانون يتجاوز على دور ألقضاء في الدولة العراقية حيث يضع قاضي تحت تصرف موظف وهو مدير مكتب الوزير وهذا زهد بدور القضاء وصلاحياته الدستورية .
6-    القانون يتعارض والدستور العراقي الذي ينص وبصورة واضحة على عدم تشكيل محاكم خاصة ، ويكتفي بانتداب قضاة من مجلس القضاء الأعلى للعمل تحت أشراف الوزارة ، وقد يتضمن هذا الإجراء معنى تشكيل هيئات قضائية داخل السلطة التنفيذية ، ومع الأسف هذا معمول به في كثير من مؤسسات الدولة كهيئة نزاعات الملكية والنزاهة  وغيرها .
7-    أن تجربة وزارة حقوق الإنسان مع قانون حماية المقابر الجماعية خلال السنوات الماضية أثبتت ان القانون لا يصلح للتعامل مع الملف ، والوزارة لا تصلح للتعامل مع الملف ، حيث لم ينتج من تزاوج الوزارة غير الشرعي مع قانون المقابر الجماعية سوى نبش مقبرة الحيدرية بطريقة اتضح فيما بعد إنها غير قانونية وأيضا غير علمية ، ولعل مهزلة إعلان الوزارة ان عدد الضحايا 150 ثم اتضح بعد فحص الجثامين في قبيل دفنها في إحدى المقابر في السليمانية ، أن العدد مائة وسبعة وثمانون ، يوضح حجم المهزلة التي تمثلها الوزارة على خشبة الجرح العراقي النازف .

8-      كما أن الوزارة حاولت التلاعب بنصوص القانون من خلال إصدار توجيهات تبعده عن هدفه الإساس الذي صدر من أجله . فالبرغم من أن الهدف الأساس هو التعامل مع المقابر الجماعية التي اقترفها النظام السابق ضد أبناء الشعب العراقي ، فإن توجيهات من الوزارة تحاول أن تبعده عن أصل الهدف الذي كتب من أجله ، وبصورة ءأنف عن ذكرها رغم وقوع بعض الوثائق تحت يدي تثبت ذلك التوجه ( غير السليم ) من خلال التلاعب بمفاهيم القانون ، ومن خلال فذلكات نابعة عن عقلية قانونية سقيمة .
فالثغرات المشار إليها أعلاه تحتم إعدة صياغة القانون بما يكفل شموله لكل أبعاد جرائم المقابر الجماعية بما يضمن حقوق جميع الضحايا وذويهم ، وقد اشرنا بشكل واضح إلى ذلك ضمن توصيات المؤتمر الدولي الثاني الذي عقد في النجف الأشرف في تشرين الأول 2009 ، كما تم مناقشة ذلك ضمن لقاءات مركز العراق الجديد للإعلام والدراسات مع وزارة الشهداء والمؤنفلين في حكومة إقليم كردستان في أربيل في كانون الثاني 2010 ، وقد حصل تأكيد من الجميع على ضرورة إعادة كتابة القانون من قبل قانونيين متخصصين .

تعامل المحكمة الجنائية العليا مع ملف المقابر الجماعية
الذي يؤسف له هو أن المحكمة الجنائية العليا لم تبادر إلى العمل بواجباتها الوطنية والدستورية فيما يخص مسؤوليتها أتجاه ملف المقابر الجماعية في العراق والذي يعتبر أكبر جريمة تقترف بحق الشعب العراقي في العصر الحديث ، فلقد بقي موقف المحكمة سلبيا ولحد الآن وكأنه لا يعنيها تارة ، وتارة أخرى تتصرف معه بانتقائية أو تتصرف معه خارج روح القضاء والعدالة .
لقد اطلعت على بعض الأنشطة التي تقوم بها المحكمة الجنائية العراقية في مجال المقابر الجماعية ، منذ مراحل تشكيل المحكمة المتقدمة ، من إجراء مسح قضائي لاماكن المقابر الجماعية بالتعاون مع بعض الجهات الأمريكية ، وإنشاء قسم المقابر الجماعية حيث يديره مجموعة من الكفاءات كما اتصلت بالكثير من أعضاء المحكمة ، ولم تكن ( النوايا الحسنة ) تنقصهم في مجال التعاون في حل مشكلة الملف ، لكن ومع الأسف لم نلاحظ اهتماما واضحا في هذا الملف ، فنلاحظ أن ذلك الإهمال سبب ضرراً كبيرا وكان من الأسباب الأساسية في تهميشه وعدم الاكتراث به ، كون أن المحكمة ووفق الدستور العراقي وقانونها هي الجهة المخولة الوحيدة في العراق للنظر بالملف ، وكون جريمة المقابر الجماعية وكما هو معروف ومتفق عليه ، هي جريمة ضد الإنسانية ، فهي إذن من اختصاص المحكمة الجنائية العراقية حصرا ، كون القوانين العراقية قبل قانون المحكمة لا تتعامل مع تلك الجريمة باعتبارها جريمة ضد الإنسانية وبذلك يكون صمت المحكمة وصمت مكتب المدعي العام فيها بحاجة إلى مسائلة من طرف ما من الدولة لأنه ما زال يسبب ضررا جسيما لحاضر ومستقبل الملف بأبعاده المختلفة وخاصة فيما يخص استرجاع حقوق الضحايا وذويهم القانونية والشرعية ، ومطاردة الجناة وإحالتهم إلى العدالة .
ومن خلال محاولتي لمعرفة اسباب تلكوء المحكمة في التعامل مع الملف ، اتصلت  في حزيران 2007 بمكتب المدعي العام بالمحكمة السيد (جعفر الموسوي) ومن خلال الكلام عن ملف الانتفاضة الشعبانية وعند الاستفسار عن عملية البحث في المقابر الجماعية فاجئني سعادة المدعي العام  قائلاً أن المحكمة لديها من الوثائق ما يدين الجناة ، فسكت وانأ احمل تساؤلا مؤلم وهو هل أن دور المحكمة ينتهي بإدانة أو اعدام وسجن من تثبت عليه الجريمة ، وكان هذا التساؤل يقودني إلى تساؤل أكبر وهو هل أن مالديكم من حفنة من المجرمين ممن قمع الانتفاضة الشعبانية ، هم كل الذين ارتكبوا هذه الجريمة الكبرى وقاموا بتلك الفظائع التي ارتكبت في الانتفاضة الشعبانية وغيرها كجريمة المقابر الجماعية ، وكان ثمة تساؤل أخر نابع عن عقلية المؤامرة لدى ، هل أن هذه محاكمة للجرائم إبان الانتفاضة ام هي تغطية عليها؟ ، لقد اتبعت المحكمة أسلوبا انتقائيا في مجال التعامل مع جرائم النظام السابق وهي بإسلوبها هذا أبعد ما تكون عن إحقاق الحق والعدالة من خلال انصاف المظلوم و انزال العقاب بالظالم ، ولكن ، رغم كل الامكانيات المتاحة امام المحكمة ، فقد وجدتُ أن من التقيتهم ، يحبون الكلام اكثر من الاستماع .


يتبع الحلقة السادسة إنشاء الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق